في ذكرى ولادة الابن البكر للحركة الكوردية بسوريا
بقلم: صالح محمود
لقد كان تأسيس أول حزب كردي في سوريا تلبية لحاجة شعبية كردية ملحة، ورغبة قوية في النهوض والمشاركة في مسيرة التطور السياسي لشعوب المنطقة، وبمعنى أوضح لماذا لا يكون لأبناء الشعب الكردي في سوريا أسوة بباقي الكورد في أجزاء كوردستان حزب أو تنظيم سياسي يعبّر عن رؤاهم وقضاياهم، ويعمل على تحقيق مطالبهم وطموحاتهم، وقد ولدت هذه الرغبة بعد سنوات قليلة من تأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني -إيران على يد الشهيد قاضي محمد.
وبعد انطلاقة الحزب الديمقراطي الكوردستاني -عراق في عام 1946 على يد البارزاني الخالد، وبعدها بعقد من الزمن وبدعم وتشجيع من الملا مصطفى البارزاني ولد الابن البكر للشعب الكردي في سوريا الذي أراد كغيره من الشعوب أن يكون له كيان سياسي يمثله وينطق باسمه، ويعمل على تحقيق مساعيه، لقد شكّل الحزب الديمقراطي الكردستاني -سوريا مرآة حقيقية عكست الطموح السياسي والقومي الكرديين في سوريا.
وعلى اعتبار أن الحزب لم يكن يمتلك تجربة وخبرة سياسية كافية توفر له مناعة ضد التمزق والانشقاق ولكون أولئك الذين أشرفوا على إقامته وتأسيسه كانوا من فئة الشباب المتحمس والمثقف بالوقت نفسه لذلك لاقى في مسيرته الأولى الكثير من المعوقات والمصاعب والتحديات لقلة التجربة في الميدان السياسي ولعدم توفر النضج السياسي الكافي لدى أعضائه من أبناء الشعب الكردي مع إن نسبة الإقبال على هذا الحزب كان كبيراً وحجم الدافع القومي كان كبيراً أيضاً مما حدا بقيادة الحزب إلى تبني أهداف وشعارات طوباوية ومستحيلة التحقيق، وقد اتسم البرنامج السياسي لهذا الحزب بغلبة العاطفة والمغامرة السياسية والابتعاد عن الواقع والعقلانية المدروسة ومال نحو الشعاراتية الفضفاضة التي كانت سبباً من أسباب تلكؤ وتعثر الحزب وتعرّض قيادته للاعتقال والسجن، فلقد أساء شعار(تحرير وتوحيد كوردستان) إلى الحزب منذ بداية نشوئه وسبب له زلزالاً عنيفاً ومدّمراً، فالظروف والأرضية السياسية لغرب كوردستان لم تكن مهيأة، ولم تكن تسمح بهكذا شعارات وهكذا مطالب، وبالتالي اصطدم الحزب مع الواقع الذي سبب له إحراجاً كبيراً، وانطلقوا من مبدأ جعل غرب كردستان قاعدة لتوحيد وتحرير كوردستان الكبرى في محاولة للم الشمل الكردي عن طريق هذا الحزب، فأوصمان صبري ذو الأصول الكردية من كوردستان تركيا كان هارباً من بطش الحكومات التركية وكذلك نورالدين ظاظا، وبالتالي كان حلم العودة يراودهما دائماً، وانعكس ذلك على برنامج وأهداف الحزب الذي تعثر كثيراً لهذا السبب، ومع ذلك وبالرغم من الحجم الكبير للإخفاقات التي حدثت فيما بعد تبقى انطلاقة هذا الحزب محاولة حقيقية للاستجابة للنزوع القومي الكردي في غرب كوردستان وشيء من قبيل الضرورة التاريخية لتطور شعب واعٍ وتواق للحرية والتحرر والتخلص من الاستبداد.
لقد حوّل الحزب الديمقراطي الكردستاني هذه الأمور إلى مطالب وحقوق مشروعة للشعب الكردي في سوريا، فكما أن الرواية الروسية خرجت من معطف غوغول فان أغلب الأحزاب الكردية الموجودة على الساحة السياسية خرجت من معطف هذا الحزب وتفرعت عنه. لقد اتسم هذا الحزب بسمة فريدة دون الأحزاب الأخرى وهو إنه شكل البذرة السياسية الأولى في غرب كوردستان وبذلك اكتسب عنصر الأصالة وكل الأحزاب التي نشأت من بعده حاولت التشبه به دون جدوى وبقيت نسخاً كربونية بعيدة عن النسخة الأصلية.
شهدت الحركة الكردية في سوريا حالة تشظي وانقسام فظيعة فيما مضى واستمر هذا إلى وقتنا الحالي، وغير المبرمج للأحزاب الكردية ولكن هذا لا يعني إن الحزب الأول يتحمل مسؤولية كل هذه الشرذمة والتفتت بل العكس تماماً هو الصحيح والحزب الأول لا يولد فاسداً ولا منحلّاً، فالفضل الأول يعود لهذا الحزب في إيقاظ الوعي القومي الكردي في سوريا وفي الحفاظ على اللغة الكردية وهوية الكورد وتراثهم، وما نراه وما نشاهده من تطورات على المسرح السياسي الكردي ومستويات من الوعي السياسي والقومي فلاشك إن الفضل الأول يعود إلى هذا الحزب الذي نال شعبية كبيرة منذ الأشهر الأولى من إعلان تأسيسه، وحتى أثناء النكسة التي تعرّض لها حينما أصبحت قيادته كاملة في المعتقل، وهذا إن دلّ على شيء يدل على توق الشعب الكردي للتنظيم والالتفاف والتمحور حول الذات التي لاقت الغبن خلال الفترة السابقة لتأسيس الحزب، ولا يغيب عن بالنا إن أفضل القيادات الكردية على الإطلاق هي تلك التي كانت في قيادة الحزب الأول، وحتى بعد مضي أكثر من ستين عاماً على ولادة الحركة الكردية لم تشهد الأحزاب التي تفرعت عن هذا الحزب قيادات بمستوى قيادة هذا الحزب من نواحي الثقافة والسياسة والعلوم والوطنية والإخلاص وهذا مثار فخر لهذا الحزب وللحركة الكردية عموماً وخير دليل على كثافة ورقي المشهد السياسي الكردي في الخمسينات، وأن وجهة النظر القائلة: أن الحزب الأول لا يتحمل مسؤولية ظهور كل هذا العدد الهائل من الأحزاب في الساحة الكردية هي صحيحة وصائبة إلى حدٍ كبير، وقد كان أمراً طبيعياً أن تختلف الرؤى ووجهات النظر بين الرفاق في الحزب الجديد وأن تظهر الاتجاهات والاصطفافات والتيارات المختلفة في صفوفه.
والشيء الذي لا يمكن تبريره هو هذا الانشطار والانقسام الهائل في جسم الحركة الكردية وهذا الأمر لا يتحمل وزره قيادة الحزب، وبقيت البذرة القومية التي زرعها هذا الحزب ونمت وتطورت حتى جعلت مجموعة تيارات وأحزاب تجتمع وتتوحد تحت مسمى هذا الحزب :الحزب الديمقراطي الكوردستاني-سوريا في عام 2014 وسارت على نهجه القومي نهج الكوردايتي.
وبذلك أصبح هذا الحزب الجديد الوريث الشرعي الوحيد لذاك الحزب، وأعاد له رونقه وبريقه الأول، وأصبح خير خلف لخير سلف.