الاغتراب.. محمد رجب رشيد

الاغتراب.. محمد رجب رشيد

من السِّمات المُميّزة التي أسبغَت تاريخ الإنسان في مُختلف مراحله، انتقاله كأفراد أو كجماعات من مكان إلى آخر طلبًا لمقوِّمات الحياة والعيش بكرامة أو هربًا من الطُغاة، الأمر الذي جعل الإنسان في حِراكٍ دائمٍ نحو الأفضل، بالطبع أيُّ حركة لابُدّ أن يُرافِقها بعض التغيير الذي بدورِه يُلزِم التكيُّف مع البيئة الاجتماعية والثقافية والجغرافية للموطن الجديد، عندئذ يكون الإنسان في حالة الاغتراب، فكيف نفهم الاغتراب؟

الاغتراب كَمفهوم هو سلوك اجتماعي ناتِج عن حالة نفسية، يُصيب الإنسان تحت ظروف قسرية مُعيّنة، تُجبره على ترك الوطن والرحيل عنه إلى المهجر للإقامة الدائمة فيه، تتأرجح هذه الحالة -لفترة غير محدودة- بين العُزلة الاجتماعية وضرورة وأهمية التفاعل مع المجتمع الجديد تمهيدًا للاندماج فيه، لا تنعدم هذه الحالة إلّا مع بلوغ التكامُل الاجتماعي، أي التكيُّف مع بيئة اجتماعية وثقافية جديدة.

أمّا الاغتراب كَظاهرة فهو أحد نتائج الهجرة وتداعياتها، رغم أنّ الهجرة لا تعني بالضرورة الاغتراب، كما أنّ الاغتراب لا يعني بالضرورة الهجرة، كالاغتراب المكاني داخل الوطن، والذي لا يقِلُّ مرارة عن الاغتراب خارِجه، بل رُبّما من أقسى أشكاله، ما أكثر المغتربين داخل أوطانهم! خاصةً في شرقنا التعيس.

لا شكّ أنّ التخلّي عن الحقائق الاجتماعية ليس بالسهولة التي نتصوّرها، بل من الصعوبة بمكان أن ينسلِخ الإنسان عن حقيقته الاجتماعية بشكل كامل، الأمر هنا لا يتوقّف فقط على مدى الرغبة أو عدمها في الانسلاخ عن الذات والانخِراط في المجتمع الجديد، بقدر ما يتوقّف على قوة المُؤثِّرات الثقافية والاجتماعية والعيش في منظومة من القِيم الجديدة التي تكرّست كناموس عام في بلد المهجر، هنا يجد المغترِب نفسه ضعيفًا عاجزًا عن المقاومة، ويشعر بِثِقل كل ما يحيط به وكأنُه قيدٌ لا يستطيع الفِكاك منه، خاصةً وأنّ المجتمعات المُضيفة لا تتساهل كثيراً في مثل هذه الأمور، ويبقى هناك تناقض بين صاحب الأرض والمهاجر إليها، ليعيش الأخير ازدواجية وانفصاماً دائمين على شكل كابوس مسيطر عليه.

تختلف درجة وسرعة التأقلم مع الحياة الجديدة في المهجر باختلاف الفئات العمرية المُهاجِرة. الأطفال الصغار لا مشكلة لديهم، كَونهم طيِّعون كقطعة العجين القابل للتشكيل كيفما تشاء، تراهم يتقِنون اللغة الجديدة بسهولة ويسر، وينخرطون في المجتمع الجديد وكأنهم وُلِدوا فيه، لا شكّ أنّ هذه الفئة ستكون على موعد مع مستقبل مُشرِق.

أمّا فئة الشباب فنجد صنفين منها، الصُنف الأول يصادفه الكثير من الصعوبات، أهمّها تعلُّم اللغة الجديدة، خاصةً وأنّها شرط رئيسي للحصول على الجنسيّة وفرصة عمل، أغلبية هذا الصُنف تندمج مع المجتمع الجديد بِبُطء إلى حدٍ ما، لكنّها في النهاية تحصل على ما تريد، وإن كانت دون طموحها. أمّا الصنف الثاني فعلى الرغم من قِلّة عدده، فإنّه يشكِّل خطرًا على الأمن العام، يُلاحظ ذلك من خلال ردّات فِعله تجاه حضارة بلد المهجر، وفشله في الاندماج، وعدم تخلُّصه من العُقد والتناقضات الداخلية القديمة لديه. في ظِل هامش الحرية المُتاح، وفي حال توفُّر البيئة المناسبة قد تتحوّل أفراد هذا الصنف إلى مُتطرِّفين وإرهابيِّين مستعدّين لزعزعة الأمن في أي مكان من العالم، كيف ذلك؟ ألَمْ يتحوّل بعض أفراد الجاليات المسلِمة في الدول الأوربّية إلى حواضِن لتفريخ أعتى المتشدّدين والارهابيِّن؟

ماذا عن كِبار السِن؟ لِسان حال كِبار السِن في المهجر (شو جابك للمُّر غير الأمر)، يمكن تصنيفهم إلى ثلاث فئات، الأولى لا تتوانى عن الانسلاخ من جميع قِيّمِه الاجتماعية وتبنّي قيم جديدة بديلة عن تلك التي تنازل عنها، ليس هذا فحسب بل تصبِح أكثر تهافتًا على بلد المهجر من السكان الأصليين، حتّى وإن كان في الملبس والمأكل، وتُسارِع إلى التقليد الأعمى في نمط الحياة السائدة. الفئة الثانية قليلة جداً تنجح في الاندماج السليم والسلس دون نُكران الذات. من المؤكّد أنّ الفِئة الثالثة المغلوبة على أمرها، ستجد صعوبة كبيرة في تعلّم اللغة الجديدة وبالتالي الاندماج، لأسباب ذاتية لا يمكن القفز فوقها، فضلاً عن تجاوز الكثير منها سِن العمل، مَمّا يجعل الاغتراب بالنسبة لها موت بطء لا ينتهي إلّا بالموت الفيزيولوجي.