في رحاب التأسيس والراهن
بقلم: د.عبدالحكيم بشار
لقد جاء تأسيس أوَّل تنظيم كردي في سوريا كاستجابة موضوعية لتطلُّعات شعبٍ يفيضُ بالمشاعر القومية الجياشة، كما جاء التأسيس نتيجة مخاضٍ طويلٍ سبقتها العديد من المحاولات حتى توّج المخاض بولادة أوَّل حزبٍ سياسيٍّ كردي شهِدَ النورَ نتيجة تضافر الظروف الذاتية والموضوعية، منها تداعيات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من نشوء دولٍ وأحزابٍ قومية، وازدياد المدّ القومي في المنطقة بوجهٍ عام، وما شهدته بوجهٍ خاص كل من كوردستان إيران حيثُ جمهورية مهاباد، وكوردستان العراق حيثُ تأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة القائد الخالد مصطفى البارزاني والذي كان له أبلغ الأثر في تصاعد المدّ القومي في كوردستان سوريا.
لقد رافق مرحلة التأسيس الكثير من الإشكاليات تميّزت بسيطرة البعد العاطفي أكثر من البعد العقلاني، لكن على الرغم من الظروف العسيرة التي رافقت الولادة فقد نجحت النخبة السياسية الكردية آنذاك بتجميع طاقات الكرد في سوريا في تنظيمٍ سياسيٍّ واحد، إلاَّ أن المشاعر القومية كانت هي بوصلتها السياسية حينذاك، لذا لم تنجح تلك النخبة في خطواتها التمهيدية المتعلقة بعقلنة تلك المشاعر، وعقلنة العمل السياسي، بل اعتمدت تلك الطليعةُ المناضلةُ على العاطفة والشعارات الكبيرة التي تفوق طاقات الشعب الكردي في سوريا، وعندما حاول الدكتور نور الدين زازا عقلنة السياسة وجد نفسه ملفوظاً خارج التيار.
إن إجراء مراجعة موضوعية عقلانية لمرحلة التأسيس وماتلاها من المحاولات الجادّة من قِبل أكاديميين كرد محايدين هي ضرورة لا بُد منها مع الأخذ بعين الاعتبار الشروط الموضوعية والتاريخية، وكذلك الأمر الأخذ بعين الاعتبار ما بذله الدكتور زازا في هذا الإطار، ولا شك في أن الحركة الكردية ومنذ بداية التأسيس نجحت في الحفاظ على الهوية القومية للشعب الكردي ومنعه من الاندثار والانصهار وهو إنجاز عظيم، ولكنه غير كافٍ لأن ذلك يُحقِّق نصف الهدف، والنصف الآخر يتمثل في ضمان الحقوق القومية للكرد في سوريا.
الواقع الراهن يعطي رسالة سلبية جداً تتمثل في المراوحة بالمكان وعدم القدرة على إضافة شيء مهم على جهود المؤسسين الأوائل، فبالرغم من ازدياد نسبة التعليم في المجتمع الكردي، ورغم التطور التقني في العالم والذي حوَّل كما يُقال العالم إلى قرية كونية واحدة، إلاَّ أن ثمّة مظاهر سلبية جداً تعرقل مسار تطور الحركة الكردية، وتعيق عمل وأداء الحركة، منها:
١- وجود أكثر من مئة حزب كردي والذي لا ينطبق عليه أي وصف التشتت أو التشرذم أو التشظّي بل هو أبعد من ذلك بكثير، باعتبار أن الكثير منها تفتقر إلى أهم عوامل تأسيس الأحزاب كالعدد المطلوب لتأسيس أي تنظيم سياسي، وثانياً مدى فعالية ذلك الحزب على الأرض؛ ثم هل جميع هذه الأحزاب أو معظمها فعلاً تعبِّر عن إرادة قسم من الشعب الكردي، وتجسِّد تطلعاته أم أن هناك أسباباً أخرى؟! عموماً أياً كانت تلك الأسباب، وحتى إذا ما نظرنا بحسن النيّة إلى هذا العدد الكبير من التنظيمات السياسية، فإن هذا الكم الهائل من الأحزاب هو بالضد من مصلحة الشعب الكردي وقضيته، ولا يمكن تبريره بأي شكلٍ من الأشكال.
٢-لا تزال لغة العاطفة والمفاهيم الشعاراتية هي السائدة والمعمول بها، وهي البوصلة كما كان الحال مع بدء تأسيس أوَّل حزب كردي، بل حتى الآن لم تنجح الحركة بعمومها في استكمال ما بدأه الراحل نورالدين زازا الذي تمثل بعقلنة السياسة، وعقلنة العاطفة، والمشاعر القومية، رغم أنه تم إعادة الاعتبار للدكتور زازا كشخصٍ مؤسِّس ولكن لم يتم إعادة الاعتبار لمساره العقلاني.
٣- يتصدر المشهد السياسي الكردي بعمومه شخصيات غير قادرة على تجسيد تطلُّعات الشعب الكردي في سوريا، وهي في الحقيقة غير قادرة على قيادته في الظروف الحرجة والاستثنائية، وبالرغم من أن الساحة السياسية لا تخلو من الكفاءات إلاَّ أن هذه الكفاءات محاصرة بتيار شعبوي جارف يحدُّ من تحرُّكه وقدراته.
بناءً على الملاحظات التي أوردناها آنفاً، علينا أن نضع العاطفة جانباً ولتكن بوصلتنا العقل في ذكرى التأسيس، ولنحيي معاً إرث الدكتور زازا والانطلاق ممّا بدأه متنوّرو الحركة الكردية إبان التأسيس، باعتبار أن الحركة الكردية تعيش الآن حالة كارثية وهي حقاً بحاجة إلى تضافُر جهود الكفاءات السياسية الكردية وطاقات النخبة الثقافية الكردية لتطرق أبواب العقل والحقيقة، وتتحمل تبعات ذلك، بما أننا أمام حالة سياسية مرضية ينبغي الوقوف عندها ملياً، معالجة الداء، وتجاوز العراقيل والتخلص من حالة التشظّي من أجل العمل على تحقيق آمالٍ طال انتظارها، ولنحطّم الحواجزَ التي صنعناها لأنفسنا، وننطلق نحو بناء جسور الثقة مع السوريين من باقي المكوّنات من أصحاب المصلحة المشتركة في بناء سورية الجديدة والديمقراطية التي تضمن حقوق جميع المكونات السورية.