ابقوا حيث أنتم لا تتركوا بيوتكم

 ابقوا حيث أنتم لا تتركوا بيوتكم

صالح محمود (صحيفة كوردستان)
هذا نداءٌ أطلقه قرويٌّ فلاحٌ أجبرته الظروف لأن يترك بلدته بعد تعرضها لهجوم من غزاة طامعين، وبعد أن صارت البلدة وراءه، وبعد أن ابتعد عنها مسافة طويلة خاب رجاؤه، وشعر بوجع الطعنة التي تلقاها عندما اُنتزع عن أرضه انتزاعاً، وهذا النداء يفسر مدى قوة العلاقة أو الرابطة الروحية بين الإنسان وأرضه.

وبناء على فحوى هذا النداء الذي يعني الكثير، فهل السوريون القائمون على أرضهم وديارهم هم ناجون؟ أم أولئك الذين غادروا، وتركوا قد أفلحوا ونجوا بالفعل؟ فالحقيقة مازالت تتأرجح بين هاتين الفئتين والقضية لم تُحسم بعد، ومازال الملف مفتوحاً، فالذين رحلوا فقدوا بعضاً من الأشياء كانوا يمتازون بها في وطنهم الأم لخلو الحيّز الجديد من قمع واضطهاد، وتوفر الحدود الدنيا للمعيشة من صحة وأمان وتعليم وسكن ورواتب ومع ذلك لا يخلو الموضوع من أمور سلبية -لابد من الوقوف عندها- ومنها إن النازح الكردي تحديداً قد يتحول في الغرب إلى شخص بلا قضية، لأنه بمجرد دخوله إلى أوروبا يمرّ ُبعملية فلترة ويتلاشى إحساسه بالظلم والمعاناة التي كان يتعرض لها في بلاده، وعندما يجد نفسه في حالة مساواة مع المحيط الذي يعيش فيه يتحول إلى شخص آخر مختلف تماماً، لقد سقطت المعاناة وسقط الاستبداد بمجرد دخوله إلى أوروبا، لقد غابت قضيته الأساسية وبات شخصاً بلا قضية، وهذا لا يمنع أن يبقى تفكيره و قلبه متعلقاً بوطنه الأم وأنظاره شاخصة نحو بلده، ولكن يبقى للمكان الجديد سطوته، والشخصية لها طاقة محددة على الصمود والثبات، وتبدأ الكاريزما العامة لها بالتحول والتغيّر، وتظهر لدى الشخص قضايا بديلة قد تتعلق بممارسة مهنة معينة أو العمل بشكل حثيث لجمع ثروة، و قد يكون السعي وراء التحصيل العلمي أو ممارسة بعض النشاطات الرياضية أو الإنسانية أموراً تشغل تفكيره، فالإنسان يحاول دوماً أن ينسى واقعه الأليم والظروف السيئة التي كان يعيشها سابقاً ليحيا حراً، فالنسيان يعبّر عن الحرية بالنهاية، وقد يراود اللاجئ حلم العودة بين الحين والآخر، ولكنه مع الوقت قد ينسى وفي يوم ما قد يزور هذه البلاد، ولكنه من الصعوبة أن يعيش فيها ثانيةً، وبالتالي قضايا هذه البلاد لا يحملها إلا أبناؤها القائمون فيها والذين على تماس مباشر معها وأفكارهم وأحاسيسهم مرآة عاكسة لظروف ومعاناة هذه البلاد.

الكردي الذي يعيش على أرضه ويتفاعل لحظة بلحظة مع محيطه غير الكردي الذي غادر الأرض وتركها خلفه، والكردي الذي بقي وتحمل وعانى غير الكردي الذي غادر، الراحلون إلى هناك معرضون لموجات من الذوبان والتحول والتغير، وهذه حقيقة لا يمكن القفز فوقها، لأن السياق العام للحياة في الغرب قوي وهادر، ويطغى على كل شيء، وطريقة وطابع المعيشة عند الأوروبيين فعّال ومؤثر جداً والمهاجرون يذوبون ببطء، وينسجمون مع المحيط وخاصة الفئات العمرية الصغيرة فهي تتفاعل بسرعة كبيرة، ومنظومة القيم والمبادئ التي يحملها معه المهاجر لا تتطابق ولا تتماشى مع الواقع هناك، لذلك فهي تتقلص وتنكمش ولا تقوى على البقاء، ويتخلى عنها صاحبها شيئاً فشيئاً، والحياة الجماعية والمشتركة التي اعتاد عليها الفرد هنا في هذه الديار هي غائبة هناك، الحياة في أوروبا فردية، أمّا هنا في شرقنا فأشياء مثل الضرورة والحاجة والظروف تدفع الأفراد لكي يعيشوا حياة جماعية ومشتركة، بينما هناك في أوروبا الكل مكتفون والكل أصحاب دور وسكن ورواتب والحد الأدنى من الأشياء متوفر، وتقلُّ حاجة الأفراد بعضهم إلى بعض فالدولة تقوم بهذا الدور، وتسدُّ حاجات السكان وبشكل خاص الأطفال والنساء، وهناك نوع من الاكتفاء الذاتي وكل مقيمٍ هناك يتمتع به، وقد يكون هذا سبباً في هشاشة العلاقات الاجتماعية واهترائها.

هناك حقيقة لا يمكن تجاوزها وهي أنّ النظام الاجتماعي في أوروبا مترهل ومتهالك، ويعاني من أزمات شديدة وقد بلغ مراحل يرثى لها وتجلى ذلك فيما تجلى بتفكك العائلة وتبعثر أعضائها، وبات من الصعوبة لململة وإصلاح الحالة إلّا بالإقدام على خطوات مثل فتح باب الاستقبال للوافدين من الخارج لتدعيم البناء الاجتماعي الذي أوشك على الانهيار والسقوط ، وأخذ اللاجئون الدور الأكبر في إعادة ترميم وتدعيم هذا البناء الاجتماعي وإصلاحه. فالأوروبيون مثلاً لا يرغبون بالإنجاب وهم بحاجة إلى من يحمل عنهم مثل هذه المهمة وقد وجدوا ضالتهم باللاجئين، فأوروبا تستقبل اللاجئين لأنها بواسطتهم ترمم وتصلح مجتمعاتها، وفي الحقيقة هناك أشياء متوفرة لدى اللاجئين وهي مصدر جاذبية لهم فالحيوية والقدرة على التناسل والإنجاب أمرٌ شاقٌ عليهم، أوروبا تعيش مرحلة الرفاهية لذلك لا تستطيع نساؤها إنجاب أطفال فكيف لامرأةٍ تبحث عن الرفاهية أن تنجب أطفالاً!

فاللاجئ يبحث عن ملاذٍ آمنٍ في أوروبا وهي فعلاً توفر له ذلك وأوروبا التي وصلت إلى مرحلة العجز تبحث عن طوق النجاة وتجده في هؤلاء اللاجئين، إذاً هناك مصلحة متبادلة بين الطرفين، ولكن خلاصة الموضوع هل نحن بمفهوم الربح والخسارة خاسرون أم رابحون؟ لاشك إننا ربحنا بعض الأشياء في الوطن البديل ولكننا خسرنا أنفسنا وعاداتنا وتقاليدنا وخسرنا الكثير مقابل ما ربحناه، لقد اُقتلعنا من جذورنا، والخوف الأكبر هو من فقدان الهوية إنه لأمر خطير أن يفقد الإنسان هويته، فالآخر أوشك على الانتهاء بسبب الرفاهية التي يعيشها وهذه الرفاهية أوصلته إلى مراحل قد تقضي عليه ولم تعد لديه رغبة بإنشاء وتكوين أسرة في الوقت الذي يحتاج فيه هذا الآخر إلى طاقة دائمة كي يتجدد، ويستمر وبحاجة إلى شباب، أوروبا بحاجة ماسة إلى طاقة بشرية وإلى يدي اللاجئ وإلى قلبه وإلى رحم اللاجئات للإنجاب.

الغرب يستحق الثناء على الخدمات التي يقدمها للّاجئين، وهذا لا يعفي اللاجئ من موضوع الذوبان والاضمحلال مقابل ذلك، فكيان الأسرة الشرقية ومفهوم الأب والأم والأقارب كله يتبدل ويتحول، فاللاجئ يوضع ضمن مكنة طحن قوية جداً وحتى اللغة القومية المحلية التي كان يتكلمها قابلة أن تذوب وتتلاشى شيئاً فشيئاً، والرياح الأوروبية عاتية لا تبقي ولا تذر.