الحروب ويقظة الوعي

الحروب ويقظة الوعي

صالح محمود

لقد كان المفكر الألماني هيغل يعتقد إنّ الحروب توقظ الوعي والعقل، وبالرغم من قساوة الحروب وجبروتها وآثارها المدّمرة فهي تشكل دروساً قاسية للذين يعيشونها ويخوضون غمارها، فسنوات الحرب الضروس التي أهلكت الناس ومزقتهم، وشرّدتهم في سوريا أيقظت وعيهم ووسّعت آفاق تفكيرهم وحدود مداركهم أيضاً، فالمهاجرون الذين فرّوا من البلاد وقبل أن يغادروا فكّروا بالخلاص والنجاة بأرواحهم، وغامروا بالبحث عن ظروف أحسن وأفضل في بيئات غريبة عنهم، فحيواتهم ضاقت، وأوضاعهم المعيشية ساءت في ظل الحرب اللعينة، وأولئك الذين قرروا البقاء اشغلوا عقولهم حتى نفذت، ولم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها لكي يتكيّفوا مع الظروف الصعبة التي رافقت الحرب وتلتها وهذا الشعور والإحساس العالي بالأشياء ألا يعدُّ يقظةً؟ وألا يعدُّ انفتاحاً وسعة أفق؟ فملايين السوريين عندما كانوا يتسمرّون أمام شاشات الفضائيات والحواسيب وأجهزة الهواتف المحمولة، ويتابعون تقارير وندوات وبرامج ونشرات أخبار، ويقرؤون الصحف بهدف معرفة وتفسير الأحداث وبانتظار ساعة الفرج، فهل كل هذه الأوقات ذهبت هكذا سدىً ودون فائدة؟ ألم توقظ وعيهم، وتنشّط ذاكرتهم حتى دون أن يقصدوا أو يكونوا متعمدين؟ هذا من جانب ومن جانب آخر فمجموع الحوارات والمناقشات والجدالات والصراعات التي جرت، وتجري بين السوريين. حتى الآن حول قضايا متعددة تمسّ أوضاعهم وأوضاع بلادهم قد شكّل بالمجمل حالة من الوعي، وولّد فلسفات وطرائق تفكير، وأجرى تغييرات ذهنية، وأدرج أفكار وأبطل أفكار أخرى، وطوى صفحات وفتح أخرى، وكان يعمل و يصب في خانة إيقاظ الوعي واشتعاله وتطور العقل وارتقائه، ففي عز المأساة العقل لا يتوقف عن العمل والتفكير وفي عز المعمعة الإنسان يستمر في التفكير والتأمل، والحرب ليست كلها شرُّكما يعتقد البعض ولا توجد حركة مجانية في التاريخ فقد يخرج خير عظيم من شر كبير، ومنطق الأشياء يقول أن ساعة الخطر عندما تدق وتقترب يتأهب العقل، ويُستنفر بشكل كامل في محاولة لإنقاذ صاحبه وتبدأ رحلة البحث عن الخلاص وإيجاد البديل، فالتأمل الطويل والتفكير العميق لابدّ مفضٍ إلى حلول لأنّها تشكل حاجة أو ضرورة، ففي الحروب والثورات يخسر الناس الكثير من الأشياء، ويتعرضون لظروف قاسية ومدّمرة، وهذا الأمر يفرض عليهم أن يبحثوا بشكل دائم عن مخارج وحلول، ورحلة البحث هذه توقظ عندهم الوعي، ففي أوقات الراحة والسلم قد يستسلم الإنسان إلى الكسل ولا يشغل باله أو تفكيره، أما في حالة الحرب فالأمر مختلف تماماً، فهناك الخوف من الضياع، ومن الهلاك. فالحرب تفرض حالة من الاستنفار الشديد والانتباه الحاد واليقظة الدائمة، وهذا يحدث تغيرات وتحولات في بنية وتركيب وعي الناس الذين يعيشون الحرب وأوزارها، فكأنّ الوعي على جدلية وعلاقة عكسية مع المعاناة كلما زادت زاد، ولا أحد يستطيع أن ينكر حقيقة أن دهاة العرب وعباقرتهم في الوقت الحالي من الفلسطينيين لأنهم تعرّضوا أكثر من غيرهم للحروب، واكتووا بنارها.

كان البارزاني الأب ينام وبندقيته في حضنه متأهباً دوماً لأي طارئ، وكانت البندقية تلهمه هو ورفاقه السياسة والوعي، لقد تخرج البارزاني ورفاقه من مدرسة الثورة المسلحة، وكانت هذه الأخيرة من أسباب عظمتهم وخلودهم.
معظم الفلسفات والأفكار التي ظهرت في أوروبا خرجت من رحم الحرب، وكانت الركائز الأولى لولادة وظهور حضارة وفرّت الرفاهية لشعوب تلك المنطقة، ففي أثناء الحروب الشعوب تعصر نفسها لتخرج أحسن ما لديها وتبذل أقصى جهدها مضطرةً لأنها تمر بمراحل مصيرية فإما أن تبقى أو تختفي إلى الأبد.
من كان يتوقع أن يصمد فلاديمير زيلنسكي ونظامه كل هذه المدة أمام ثاني أقوى جيش في العالم، لقد تفاجأ بوتين من أدائه وصموده وأعتقد للوهلة الأولى أنّ زيلينسكي والحاشية التي حوله سوف يفرّون، ويتساقطون خلال بضعة أيام، بينما أنضجتهم نار الحرب وقوّت إرادتهم،

الشعب السوري وبالرغم من الظروف القاسية التي تعرّض لها وبالرغم من حرمانه من أشياء كثيرة وخسارته لامتيازات عديدة كان يعيشها، ويتمتع بها قبل الحرب فقد شاهد وعيه نوع من التبلور والتطور، وفيما لو أجرينا مقارنة بين مستوى التفكير قبل الحرب وبعدها لتبين الفارق الكبير بين المستويين، فالحروب تدّمر، وتخرّب، ولكنها مع ذلك تعلّم، الحرب عبرة و تجربة وامتحان قاس، والحرب رصاصة وبندقية وبيوت مدمّرة وقتلى وجرحى ونازحون ومهجّرون ومعذّبون ومحاصرون ومعاناة ومعها يبقى الوعي يقظاً، فالحرب قد تدمر كيان شعب ولكنها لا تستطيع أن تقضي على وعي أفراده وتفكيرهم، فهي قد تؤثر على أخلاقهم ونمط معيشتهم وعلى إنسانيتهم لكنها لا تستطيع على الإطلاق تحديد وعيهم وتحجيمه، الوعي شجرة تنمو وتكبر، وتتطور في ظل الحرب، وأفضل وسيلة لترك الأشياء هي تجريبها، فالشعب السوري بعد كل سنوات الحرب التي مرّ بها بات يميل الى التهادن والسكينة، ولم تعد لديه رغبة بالاندفاع نحو أي شكل من أشكال العنف وبات يستجدي ويتوسل السلم والهدوء ألا يستحق هذا الشعب أيام من الازدهار وسنين من الرخاء بعد كل أعوام المعاناة التي عاشها تحت حكم الطاغية الأسد.