سوريا على مفترق الطرق
تورين شامدين
بعد أكثر من عقد من الصراع الدموي الذي مزق سوريا سياسيًا واجتماعيًا وجغرافيًا، ما زال مستقبل البلاد معلقًا في ميزان المجهول. في ظل غياب توافق سياسي بين القوى الداخلية والخارجية، تتفاقم المخاوف من أن استمرار الإصرار على النظام المركزي، ورفض النظام الفيدرالي اللامركزي، قد يدفع البلاد نحو سيناريو التقسيم، مما سيهدد وحدة سوريا ويزعزع استقرار المنطقة بأسرها.
لسنوات طويلة، بُنيت سوريا على نظام مركزي صارم قائم على هيمنة السلطة التنفيذية، التي حوّلت الدولة إلى أداة لإحكام سيطرة فئة صغيرة على مقدرات البلاد، مع تجاهل التعددية القومية والطائفية. هذا النهج خلق بيئة من التهميش السياسي والاقتصادي، وكرّس الفجوة بين المناطق، خصوصًا تلك التي تضم مكونات أساسية مثل الكورد والآشوريين والدروز. وفي ظل هذه التركيبة، بات مفهوم الهوية الوطنية عرضة للتآكل، مع تصاعد شعور المكونات المختلفة بالإقصاء وعدم الانتماء إلى الدولة المركزية.
النظام الفيدرالي، الذي يقوم على توزيع السلطة بين المركز والأقاليم، ليس مفهومًا جديدًا في السياسة العالمية، ولكنه يُمثل اليوم حلاً عمليًا للأزمة السورية. الفيدرالية ليست دعوة للانفصال، بل هي إطار سياسي يُمكن من خلاله ضمان وحدة الدولة مع احترام الخصوصيات الثقافية والقومية والطائفية. وفي الحالة السورية، يمكن للفيدرالية أن تُعيد بناء الثقة بين المكونات، وتحقق توزيعًا أكثر عدالة للموارد والسلطة.
على الصعيد العملي، يمكن للنظام الفيدرالي أن يُشكل قاعدة لكتابة دستور جديد يُعبر عن تطلعات جميع السوريين، ويضمن حقوقهم في إطار دولة موحدة. لكن هذا النظام يتطلب إرادة سياسية حقيقية من القوى الداخلية والإقليمية والدولية، بعيدًا عن سياسات فرض الأمر الواقع التي تُكرس الانقسام.
إن استمرار القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا وإيران، في رفض النظام الفيدرالي يعكس مخاوفها من انعكاسات هذا النموذج على أوضاعها الداخلية. تركيا، التي تخشى من تعزيز الطموحات القومية للكورد داخل حدودها، تعتبر الفيدرالية تهديدًا لوحدة أراضيها. وبالمثل، ترى إيران في النظام المركزي ضمانة لاستمرار نفوذها في دمشق، حيث تعتمد على مركزية القرار للحفاظ على ارتباط النظام السوري بمصالحها الإقليمية.
لكن هذه السياسات قصيرة النظر قد تحمل نتائج عكسية على الدولتين نفسيهما. إن إضعاف فرص تطبيق النظام الفيدرالي في سوريا، مع استمرار الصراع الداخلي، قد يُعزّز النزعات الانفصالية ويُشعل صراعات مشابهة داخل تركيا وإيران، اللتين تواجهان أصلاً تحديات قومية داخلية. وبالتالي، فإن الاستقرار الإقليمي يتطلب من هذه القوى تبني مقاربة أكثر شمولية وواقعية تُراعي مصالح جميع الأطراف.
في غياب توافق سياسي حول النظام الفيدرالي، يصبح التقسيم أكثر واقعية. الصراع المستمر، والانقسامات الجغرافية الحالية، وتعقيدات التدخلات الدولية، تُشير إلى أن سوريا قد تتحوّل إلى كيان مجزأ، مع سيطرة قوى مختلفة على مناطق متفرقة. هذا السيناريو لن يكون مجرد كارثة وطنية، بل سيمتد تأثيره إلى دول الجوار، مما يُهدد الاستقرار الإقليمي بأسره.
التقسيم لن يُفضي إلى حل مستدام، بل سيُعمّق الأزمات، ويُفاقم من معاناة الشعب السوري الذي دفع ثمناً باهظاً للصراع. كما أنه سيُشكّل أرضية خصبة لاستمرار التدخلات الخارجية، وتنامي الجماعات المتطرفة التي ستستغل حالة الفوضى لتحقيق أجنداتها.
الإشكالية السورية ليست معزولة عن المحيط الإقليمي. استمرار الأزمة دون حلول جذرية لن يؤثر فقط على سوريا، بل سيمتدُّ إلى دول المنطقة. تركيا وإيران والسعودية والعراق وحتى الدول الأوروبية جميعها معنية بما يحدث في سوريا. استمرار الصراع يعني المزيد من تدفقات اللاجئين، وتهديدات أمنية، وتصاعد التوترات السياسية.
لهذا، فإن النظام الفيدرالي ليس مجرد خيار داخلي، بل هو ضرورة إقليمية. على القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أن تضطلع بدور أكبر في دعم هذا التوجه، من خلال الضغط على القوى الإقليمية لتغيير سياساتها، والمساهمة في بناء إطار سياسي يُنهي حالة الاستعصاء.
إن كتابة دستور جديد يُبنى على أسس فيدرالية يُمكن أن يُشكل نقطة تحول في الأزمة السورية. دستور يُعبر عن جميع المكونات، ويضمن حقوقها في إطار دولة موحدة، سيكون حجر الأساس لإعادة بناء الثقة بين الشعب والدولة. لكن هذه الخطوة تتطلب التزامًا حقيقيًا من جميع الأطراف، وتنازلات متبادلة تُفضي إلى حلول طويلة الأمد.
رغم كل التعقيدات، لا يزال هناك أمل في إعادة بناء سوريا كدولة موحدة تستند إلى العدالة والمساواة. النظام الفيدرالي هو الإطار الأكثر منطقية لتحقيق هذا الهدف، لكنه يتطلب إرادة سياسية صادقة من الداخل ودعمًا دوليًا وإقليميًا. على جميع الأطراف أن تدرك أن استمرار الأزمة لن يخدم أحدًا، وأن الحل الوحيد هو بناء دولة تُحترم فيها التعددية وتُوزع فيها السلطة بشكل عادل.
إن مستقبل سوريا لا يتعلق فقط بالسوريين، بل بالمنطقة بأسرها. والفيدرالية ليست تهديدًا، بل هي الطريق الوحيد للحفاظ على وحدة البلاد وضمان استقرارها، واستقرار المنطقة ككل.