شاهدٌ على مسيرة بارتي ديمقراطي كردستاني – سوريا (PDK-S)

شاهدٌ على مسيرة بارتي ديمقراطي كردستاني – سوريا (PDK-S)

شاهدٌ على مسيرة بارتي ديمقراطي كردستاني – سوريا (PDK-S)
(1957 ـ 2020)

نوري بريمو (عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني - سوريا)

تأسّس الحزب الديمقراطي الكردستاني - سوريا (pdk-s) بتاريخ 14- حزيران1957م، وقد جاء هذا التأسيس بمثابة رد فعل طبيعي على المظالم العنصرية التي مارستها الأنظمة الشوفينية الحاكمة لسوريا ضد شعبنا الكردي في كردستان سوريا...، وقد كان للثورات والانتفاضات الكردية التي اندلعت في تلك الفترة وقبلها وخاصة إعلان جمهورية كوردستان من قبل قاضي محمد وإعلان تأسيس البارتي الشقيق (الحزب الديمقراطي الكردستاني) من قبل الزعيم الخالد مصطفى بارزاني، ولمّا كان لتلك الأحداث الكردية البارزة تأثيرات وأفكار تحررية فقد شجعت الكرد في كافة أنحاء كردستان بما فيهم كرد سوريا على ضرورة النهوض بقضيتهم القومية المشروعة، وفي الحقيقة لقد كان لثورة أيلول المجيدة بقيادة البارزاني الخالد، أثر فعال ولا يستهان به في مسعى النهوض بالفكر القومي التحرري وبتعزيز الموقع النضالي لحزبنا البارتي وتقويته وتوسيع رقعة نفوذه وتعاظم دوره السياسي ومكانته الجماهيرية.

ومنذ يوم التأسيس إرتبط إسم حزبنا البارتي بالنضال الكردايتي وباسم البارزاني الخالد الذي كان وسيبقى رمزاً وطنياً كردستانياً أنار وينير دروب النضال التحرري، فتشكل منذ ذلك الحين مثلث عقائدي حزبي وسياسي مترابط وهو (البارتي ـ الكردايتي ـ البارزاني) ، وقد تجمهر الكرد في كل مكان حول هذا المثلث المقدس الذي بقي وسيبقى متلازما ولا تنفصم عراه عن بعضها البعض مهما حاولت الجهات المعادية فكفكة شيفرته وإعاقة مساره، ولكي يحافظ هذا المثلث على وحدته وقوته يتوجب علينا نحن الذين نعتبر أنفسنا تلاميذ مخلصين في مدرسة البارتي والبارزاني أن نبحث بجدية عن مقومات تعزيز مكانة حزبنا في كردستان سوريا المحتاجة إلى بارتي قوي يقود نضالها في سباق حقيقي مع الزمن.

وطوال العام الذي تلا يوم التأسيس، أدى المؤسسون الثمانية (المرحوم الدكتور نورالدين ظاظا والمرحوم عثمان صبري والمرحوم محمد علي خوجة والمرحوم رشيد حمو والمرحوم حمزة نويران والمرحوم شيخ محمد عيسى والمرحوم الأستاذ حميددرويش والدكتور خليل محمد عبدالله) ومعهم مئات الكوادر القيادية مهام قيادة البارتي بحسب إمكانياتهم وبذلوا كافة طاقاتهم، وناضلوا كل حسب موقعه في صفوف الجماهير الكردية، وكان القياديون يتنقلون من منطقة إلى أخرى بمنتهى الحيطة الحذر وبوسائل نقل وإعلام بدائية، وذاع صيت البارتي واتسعت رقعة دائرة تنظيماته في كافة المناطق الكردية وفي كبريات المدن السورية كحلب ودمشق وفي لبنان وأوربا، وفي المجال السياسي أصدرت قيادة البارتي بيانات عديدة متلاحقة واتخذت خيارات سياسية مشرِّفة تجاه مختلف الأحداث والمواقف التي كانت تعترض السبيل.
وفي عام 1958م أي بعد مرور أقل من عام، قام البارتي بعقد مؤتمر مصغر أو بالأحرى اجتماع موسع لمناقشة أوضاع الحزب وللبحث عن كيفيات تطويره، وانتهى المؤتمر بنجاح وجرى اختيار لجنة مركزية وتم انتخاب المرحوم الدكتور نورالدين ظاظا لمنصب السكرتير العام للبارتي نظرا لجدارته وإمكانياته الفائقة وتاريخه النضالي ومكانته المحترمة بين كافة الأعضاء والمؤيدين ووسط أوساط المثقفين الكرد آنذاك، وخرج المجتمعون بمعنويات نضالية عالية وبإصرار وصلابة على مواصلة النضال تحت شعار (تحرير وتوحيد كوردستان).
وأصدرت اللجنة المركزية للبارتي حينذاك وبشكل سري ورغم تلك الظروف الحالكة، جريدة (صوت الأكراد ـ دنكي كرد) التي كانت لسان حال الحزب وكانت تعبر عن آمال وطموحات ومآسي شعبنا وتنادي بتحقيق المساواة القومية والعدالة الاجتماعية والاعتراف بالحقوق القومية للكرد، وكانت هيئة التحرير مؤلفة في بداية التأسيس من المرحوم العم عثمان صبري في دمشق والمرحوم محمد علي خوجة في عفرين والمرحوم الأستاذ رشيد حمو في عفرين أيضاً، وكان يترأس تحريرها سكرتير الحزب الدكتور نورالدين ظاظا الذي كان يتقن الكتابة باللغة العربية أكثر من باقي رفاقه، وقد استمرت نشرة دنكي كرد بالصدور رغم الصعوبات التي اعترضت سبيلها، وقد توقفت لفترة قصيرة في عام 1960 بسبب تكثيف الضغط السلطوي عليها ومصادرة بعض الآلات الكاتبة والناسخة، ورغم الانشقاقات التي حصلت إلا أن الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي) احتفظ بحقه كصاحب امتياز لهذه الجريدة الدورية.
وقد كان من ابرز نشاطات البارتي في تلك المرحلة، هو اتخاذ قرار إحياء إيقاد نار عيد نوروز في المناطق الكردية في ليلة 21 آذار 1960، واعتقل بسبب ذلك مئات المواطنين وأعضاء وأنصار الحزب، كما تعرض أعضاء قياديون لحملات اعتقال وملاحقة مستمرة في عهدي الوحدة السورية المصرية والانفصال أيضاً، إلا أنه رغم ذلك حافظ البارتي على تنظيماته وخلاياه السرية بين أوساط المتعلمين والمثقفين والطلبة والمتنورين وحتى البسطاء من بنات أبناء شعبنا الكردي المضطهد.

لكنّ إعتماد البارتي لشعار "تحرير وتوحيد كوردستان" أدى في ذلك الحين السوري القاتم في ظل الدكتاتوريات المتعاقبة على الحكم إلى انزعاج السلطات السورية التي رفعت الضوء الأحمر في وجه قيادة البارتي وقواعده، وتم إعتقال أغلبية أعضاء القيادة وخيرة الكوادر، وصودرت إحدى آلات الطباعة التي كانت مخبأة في كهف بمدينة معبطلي التي هي مسقط رأس المرحوم محمد علي خوجة، وحوكم البارتيون بتهمة "الانتساب إلى جمعية سرية خطرة على أمن الدولة وتسعى إلى الانفصال وتشكيل دولة كردية في شمال سوريا"، وصمد الكوادر المعتقَلون وأعضاء القيادة في وجه جلاديهم ورفضوا الخضوع لأوامر السلطات التي طلبت منهم أن يعلنوا حلّ تنظيمات البارتي، لكنّ القيادة وبمعية مئات الكوادر النشطة تجرأت ورفضت الاستسلام لأمر الواقع وأصرت على مواصلة النضال مهما كلف الأمر.

وبعد انقضاء حوالي سنتين اثنتين من استقرار الحكم في سوريا لصالح سلطة الوحدة السورية المصرية برئاسة جمال عبد الناصر الذي كان من الأفضل له أن لا يوسع دائرة خصومة في الداخل السوري، لكنّ اندفاعه الثوري والقوموي ورغبته في رحلة "القضاء على نفوذ الأجنبي" عبر فرض هيبة نظام الوحدة على البلاد والعباد، ساقه للاستسلام لنشوة الانتصار فارتد على أطياف سياسية واجتماعية سورية عديدة عبر الضغط على بعض الأحزاب التي وصفها بالمناوئة للوحدة والمتعاملة مع الخارج، وفي مقدمتها بارتي ديمقراطي كردستان الذي أطلق عليه الوحدويون حكم الانفصالية والتبعية للزعيم الكردي الخالد مصطفى بارزاني الذي كان قد عاد لتوه من الإتحاد السوفييتي بمعية مئات المناضلين من صحبه الذين أمضوا معه رحلة نفي إجبارية دامت 13 سنة في الغربة، إلى العراق الذي شهد حينها ثورة تموز 1958 التي انقلبت على الملك وأنهت النظام الملكي بقيادة الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الذي كان قد دعا البارزاني الخالد للتفاوض معه وحل القضية الكردية في كردستان العراق، لكنّ الحكومة العراقية ما لبث أن شنَّت حربا ضد إقليم كردستان ونكصت بوعودها التي أبرمتها مع الجانب الكردي الذي وجد نفسه مضطرا لاختيار خيار اللجوء إلى الكفاح المسلح كوسيلة مشروعة للدفاع عن النفس فاندلعت ثورة أيلول المجيدة التي يعود لها ولقائدها الفضل الأكبر في نشر الوعي القومي الكردي في كافة أجزاء كوردستان.

أمام هكذا موجة من الضغط المتزايد على الجانب الكردي في كردستان سوريا، تعرض البارتي لحملات متلاحقة من الإعتقالات والضغوط والترهيب ولكن لم يكن أمامه سوى الصمود في وجه الدوائر الشوفينية التي يبدو أنّ شغلها الشاغل كان ممارسة التمييز القومي وملاحقة النشطاء الكرد ووضع الخطط العنصرية لتعريب المجتمع الكردي وفق منطق فوقي بعيد كل البعد عن الثقافة التوافقية التي كانت سائدة في سوريا قبل تلك الفترة التي باتت فيها اللغة الكردية ممنوعة الكلام والتداول!!؟، ومضت حكومة الوحدة التي يبدو أنها كانت غريبة عن طبائع المجتمع السوري في رسم مخططاتها والسير باتجاه تشكيل مزيد من الضغوط الأمنية على قيادة البارتي وكوادره، وقد أدى استمرار العسف السلطوي إلى خلق حالة من التخوف وقدر من التردد لدى بعض أعضاء قيادة البارتي الذين اقترحوا اعتماد مواقف وأشكال نضالية وشعارات وقائية، وقد أدى ذلك إلى اتخاذ قرار اضطراري يقضي بتأجيل شعار تحرير وتوحيد كردستان وتبديل كلمة "الكردستاني" بـ "الكردي" في إسم الحزب الذي تغير فيما بعد إلى (الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا)، وقد ألحق ذلك القرار انتكاسة مؤقتة بمشروع البارتي وبجماهيره وبمؤسسيه وقيادته وكوادره .

ومن أجل توسيع دائرة التنظيم توجهت قيادة البارتي إلى الجماهير رغم جدار الرعب الذي كان قابعا فوق رقاب أهلنا، وأرادت إيجاد قاعدة شعبية وتنظيمات بينها، وأصبح للبارتي قاعدة عريضة شملت مناطق واسعة من الجزيرة وكوباني وعفرين.

وبعد تلك الفترة تعرّضت قيادة البارتي إلى ضغوط أمنية كثيرة بسبب الأوضاع السياسية المتطورة باتجاه الشدة، حيث أصدرت السلطات السورية قرارا مجحفا بحل الأحزاب السياسية والضغط على البارتي واعتقال الدكتور نورالدين ظاظا والعم أسمان صبري وحمزة نويران وشوكت حنان ودعوة رشيد حمو وباقي رفاقهم وتلاحقت حملة إعتقال قيادة البارتي الذي دخل فيما بعد في دوامة من الملاحقات والاعتقالات والتحقيقات التي وصلت أوجها في عام 1960م، حيث أصبحت الحالة الأمنية لا تُطاق وصارت اللقاءات والاجتماعات الحزبية شبه مستحيلة في ظل حملات الملاحقة المكثفة، مما أدى إلى تعطيل الحياة الحزبية بشكل جزئي ونشبت بعض الخلافات الداخلية التي شكلتْ عاملا إضافيا في تعثر العمل التنظيمي وخسارة البارتي لبعض مؤسسيه الذين أصابهم قدر من اليأس جراء رداءة الحال وضعف الحيلة، وجرى تبادل الاتهامات بين بعض الرفاق القياديين بما فيهم سكرتير الحزب الذي خسره البارتي بعد أن غادر البلد ولجأ إلى أوربا خوفا من بطش النظام وتحاشيا من ظلم ذوي القربى أو بالأحرى من اتهامات بعض رفاقه له.

وعلى أثر انقلاب حزب البعث على سلطة الانفصال في عام (1963) واستفراده بالحكم، تفرّغ النظام البعثي للضغط على الداخل السوري وبدأ بتصفية القوى والحركات الأخرى المناوئة له، وقد نال البارتي نصيبا أكبر من غيره في مجال الضغوط البعثية التي تراكمت عليه وأودت إلى قصم ظهره، لأن سلطة البعث اعتبرت بأنّ البارتي حزبا كرديا معاديا لأهدافه العروبوية وبدأ بمحاربته عبر الضغوط الأمنية من جهة وعبر تطبيق سياسة فرق تسد من جهة أخرى، وذلك لشعور البعثيين بخطورة انتشار هذا الحزب الكودي على سوريا البعث، وقد استخدم النظام حينها مختلف أساليبه الإستخباراتية وقام بتوجيهها ضد الشعب الكردي والبارتي لتشتيت صفوفه وقام بنشر مختلف أجنداته وأدواته (الأجهزة الأمنية وتنظيمات البعث والحزب الشيوعي والناصري وغير ذلك) التي عملت ولا تزال تعمل بتحريض الشارع العربي بالضد من الشارع الكردي والبارتي الذي إرتبط إسمه مصيرياً بالقضية القومية الكوردية، أي أنّ الحكومات الشوفينية استخدمت أسلوب الترهيب ضد الكرد والحركة الكردية، حيث قام البعثيون والشيوعيون بمنافسة البارتي عبر تقليص نفوذه بين جماهيره في مناطقنا الكوردية.

ومن جهة أخرى حاولت السلطة السورية شراء بعض الذمم الضعيفة وزرعت الفتنة في صفوف قيادة البارتي وشقت صفوفه واعتقلت بعضا من قياداته الشريفة على مراحل وبشكل متكرر ومقصود، وقامت السلطة بتحريض بعض العناصر الموالية لها لكي تعمل على ترويج ثقافة حزبية تدعو إلى وجوب صون استقلالية البارتي وذلك لقطع علاقاته الأخوية مع باقي أجزاء كردستان وخاصة مع بارتي ديمقراطي كردستان العراق وبالتحديد مع القيادة البارزانية، مما أدى إلى شق صفوف قيادة البارتي وكوادره وأعضائه وجماهيره إلى جناحين حزبيين تنافسا فيما بينهما حتى بلغا أوج الخلافات التي أدت إلى حصول انشقاق 1965 المشئوم الذي لم يكن له أية مبررات سياسية وإنما حصل لغايات شخصية بشهادة كل المناضلين الذين عاصروا تلك المرحلة، وقد كان لذلك الانشقاق أثر بالغ في تلكؤ مسيرة البارتي على مدى العقود الستة الماضية، حيث انقسم فيها إلى جناحين أحدهما يميني والآخر يساري، وما بين هذين الجناحين الذين قاما بتدمير التنظيم واقتسامه فيما بينهما، برز تيار أو بمعنى أدق أكثرية حزبية أعلنت عن حياديتها وبراءتها من الانشقاق وانسحبت من العمل التنظيمي وأصرت على أن يبقى بارتي كردستان سوريا في خندق البارتي الشقيق وأن يسير على هدى نهج البارزاني الخالد ويبقى موحدا إلى حين انعقاد مؤتمر توحيدي من شأنه أن يعيد اللحمة بين رفاق الأمس ومخاصمي اليوم.

وبشكل لا يتصوره العقل...، ألحق انشقاق 1965 أفدح الأضرار بالبارتي طوال خمسة سنوات كادت أن تودي به إلى الهاوية في حينه، إذ أدى ذلك إلى تمزيق جسده الذي تحول إلى مطيه أو دميه بين تيارين متنازعين لم يرحما ذلك المثلث (البارتي- الكوردايتي- البرازاني) الذي ذكرناه في البداية، وفي كل الأحوال فإنّ صفحات التاريخ شاهدة على أنّ قطبي هذا الانشقاق قد عملا كل ما بوسعهما من تخريب في سبيل تشويه سمعة البارتي والبارزاني في أن واحد، ليس هذا فحسب لا بل حاولا وأد البارتي في مقبرة الخلافات الداخلية التي افتعلها ودعمها نظام البعث، تحت شعارات براقة وكلام حق يراد به باطل!!، أدى فيما أدى إلى تجميد تنظيمات البارتي بشكل كامل واستمر الوضع هكذا حتى انتصرت ثورة ايلول ونجحت في التوصل إلى توقيع اتفاقية الحكم الذاتي في 11 ـ أذار عام 1970م، حينما بادر قائدنا الراحل مرة أخرى إلى إعادة الاعتبار لبارتي ديمقراطي كردستان سوريا عبر عقد مؤتمر توحيدي لكافة أطرافه في كردستان العراق.
وبهذا الصدد يبدو أنه من المفيد للغاية أن نتطرق بالتفصيل إلى إنشقاق آب 1965م،حيث وقع البارتي في فخاخ انقسام ساقه إلى فاه كماشة غرست فكيها في جسد الحزب بغياب أو بمعنى أكثر دقة تغييب سكرتيره الدكتور نورالدين ظاظا، وكان أحد فكي تلك الكماشة يميني ويدّعي بأنه تيار إصلاحي وديمقراطي وعقلاني ولا يريد توريط الكورد في مواجهة مع السلطات السورية الدكتاتورية!!؟، أما الآخر فكان يساري ويدعي بأنه تيار ثوري وتقدمي وينشد نحو الطلائعية ويخوض صراعا طبقيا إلى جانب النضال القومي!!؟، وبمقابل هذين التيارين المنشقّين برز بقوة تيار حيادي أو وحدوي وسط حدّة الصراعات الحزبية التي دارت بين اليمين واليسار في ذلك الحين الإنشقاقي، وقد كان الحياديون يرحبون بالحوار مع اليسار واليمين في آن واحد، ويؤكدون بأنهم يمثلون خط البارتي الذي ينبغي أن يمثل إرادة شعبنا وأن يؤيد ثورة أيلول المجيدة وأن يسير وفق خطى قائده البارزاني الخالد، وكانوا ينشدون إلى ترتيب البيت الكوردي وتوحيد صفوف البارتي في وجه السياسات الشوفينية التي كانت تعتمدها السلطة ضد الكورد، وقد استطاع هؤلاء أن يشكلوا فيما بينهم تيار حزبي واسع ونجحوا إلى حد كبير في تعزيز النهج الوحدوي ونشره بين الرفاق والمؤيدين، مما أدى شيئا فشيئا إلى تقليص نفوذ اليسار واليمين، وتم إطلاق اسم الوحدويين على الحياديين نظرا لتكاتفهم وتكاثر أعدادهم ولكثرة نشاطهم ولرفعهم شعار الوحدة ولجديتهم في النضال ولإلتفاف جموع المناضلين الوطنيين حولهم، وقد استطاع الحياديون تنظيم صفوفهم خلال السنوات الخمسة التي كانت تفصل بين الانشقاق والمؤتمر التوحيدي الذي انعقد في كوردستان العراق في عام 1970 باقتراح من الوحدويين وبرعاية كريمة من البارزاني الخالد الذي قام بتوجيه دعوة لليسار واليمين والوحدويين لحضور مؤتمر مكاشفاتي يضع النقاط على الحروف ويعيد اللحمة للبارتي.
ويؤكد شهود عيان كثيرون وتؤكد معظم المؤشرات والمعلومات التي يمكن استشفافها من أحداث تلك المرحلة، بأنه لولا بروز التيار الوحدوي ولولا التزامه مع القيادة البارزانية التي لبت نداءهم الوحدوي، لما استطاع البارتي أن يستعيد موقعه ويتابع مسيرته ويعقد مؤتمره التوحيدي، فاليسار واليمين كانا قد أغلقا معظم الدروب أمام كافة محاولات التلاقي التوحيد ولم يبقيان أي خط رجعة للمصالحة والإصلاح وكانا يمارسان لعبة شد الحبل بالضد من حزبنا الأم الذي تحوّل إلى مرمى لسهام كل من هبَّ ودبَّ!!؟، في حين لم يكن يتوقع تيارا اليمين واليسار بأنّ هؤلاء الوحدويون سيصبحون قادرون على خلق أجواء ضاغطة لجهة إجبارهم وجرِّهم صوب خيار حضور أي مؤتمر توحيدي قد ينعقد هنا أو هناك.
وقد كان من حسن حظ حزبنا البارتي وشعبنا الكردي في كردستان سوريا، هو تنامي دور الوحدويين وصلابة موقفهم وجرأتهم السياسية وقوة إرادتهم ونقائهم الوطني وإيمانهم بالنضال القومي ومصداقيتهم العملية و...إلخ، شريطة أن لا ينسى أحدا بأنّ الفضل الأكبر في ذلك التلاقي والتوحيد يعود بالدرجة الأولى إلى مدى رحابة صدر البارزاني الخالد وترحيبه باقتراحات المناضلين الشرفاء وقبوله بفكرة دعوة جميع الأطراف (اليمين واليسار والوحدويين) وحكمته في إدارة ذلك الصراع لصالح وحدة البارتي عبر عقد مؤتمر وحدوي تحت إشراف سيادته في إقليم كوردستان الذي كان قد حقق الحكم الذاتي لشعب كوردستان بموجب اتفاقية 11 آذار 1970م.
وبالفعل انعقد المؤتمر التوحيدي لحزبنا البارتي بحضور كافة الأطراف المعنية بشأن الانشقاق والتوحيد وبإشراف مباشر من البارزاني الخالد الذي أثبت للقاصي والداني على الدوام بأنه الأب الروحي لشعبنا، فقد أكد للمؤتمرين وللملأ بأنه سيبذل كل ما بوسعه من أجل توحيد صفوف البارتي الذي تنتظره مهام نضالية لا حصر لها ولا ينبغي لأحد أن يعبث بها.

وقبل البدء بأعمال المؤتمر الذي دام لعدة أيام، وفي الجلسة الافتتاحية، وأمام كل الحضور أعلن رموز اليمين واليسار بأنهم جاؤوا إلى هذا المؤتمر بمحض إرادتهم لأنهم يعتبرونه محفلا تاريخيا مسئولا وسيد نفسه ولا سيادة عليه ولذلك فإنهم لن يتعالوا عليه وسيبصمون بعشرة أصابعهم على كافة القرارات والتوصيات التي ستصدر عنه وأنهم سيتحولون إلى جنود مجهولين أوفياء وسيخدمون البارتي والقضية بكل ما ملكت عقولهم وأيمانهم و..إلخ من الكلام الإيجابي الذي يبدو أنهم كانوا يقولونه لغرض في نفس يعقوب!!؟، إذ تبيَّن فيما بعد بأنهم كانوا يبدون منتهى المرونة ويتمسكنوا حتى يتمكنوا أو بالأحرى كانوا يحلمون بأن المؤتمر سيكافأهم على انشقاقهم ولذلك كانوا يخططون لكي يصبحوا قياديين ويحصلوا على الشرعية المطلوبة وليهيمنوا فيما بعد على زمام الأمور والمبادرة كما لو أنهم يحضرون في بازار سيرسو مزاده العلني لصالحهم!!، لكنّ السحر انقلب على الساحر عندما جدّ الجدّ ودخل الكلام النظري في طور التنفيذ العملي، حيث لم يكن يتوقع أحدا من رموز اليمين واليسار بأنّ الأمور ستسير داخل قاعة المؤتمر بعكس مرادهم لينال كل ذي حق حقه الطبيعي الذي يبدو انه جاء بعكس ما كانوا يرسمونه، ولم يتوقعوا أبدا بأن الوحدويون قادرون على خلق البديل الديمقراطي لأمثالهم، وفي هذا المجال أبدى الوحدويون منتهى المكاشفة ولم يخجلوا من المجاهرة بالحقيقة ووضعوا النقاط على الحروف وطالبوا المؤتمر بمحاسبة أبطال الانشقاق ومنعهم من عرقلة مسيرة البارتي مرة أخرى، مما أدى إلى انزعاج أصحاب القرار لدى جناحي اليمين واليسار اللذان لم يكن أمامهم سوى الرضوخ لأمر الواقع والبقاء في المؤتمر وعدم تعكير أجوائه للخروج سالمين وليس غانمين وبأقل خسائر ممكنة.

وعندما وجد أصحاب المصلحة الحقيقة في دفع عجلة البارتي بأنهم يشكلون الأكثرية الساحقة في المؤتمر، ارتفعت معنوياتهم وتشجَّعوا وأرادوا حسم كافة الأمور لصالح البارتي وليس لصالح أي شخص آخر، وبعد المداولات الجدية والمناقشات الرفاقية جرى التوافق على حلّ جناحي اليمين واليسار وانتخاب لجنة مركزية بمثابة قيادة مرحلية قوامها قياديون من اليمين واليسار والوحدويين وبعض الشخصيات الاعتبارية والمثقفين المستقلين المهتمين بالشأن، وجرى الإجماع على اختيار المرحوم المناضل الحاج دهام ميرو سكرتيرا عاما للبارتي، فيما أجمع جميع الحاضرون في ذلك المؤتمر التاريخي على عدم تمثيل أقطاب الصراع في القيادة أو بالأحرى اقترحوا إعطاء استراحة مؤقتة مدتها سنتان لرموز اليمين واليسار في القيادة المرحلية الجديدة المكلفة بتسيير أمور الحزب ودمج كافة تنظيماته مع بعضها خلال مدة أقصاها عامين اثنين أي ريثما يتم إيصاله بأمان إلى المؤتمر الأول للبارتي الذي تم تحديد موعده في صيف عام 1972م، شريطة أن يلتزم كافة الأقطاب الذين تم إعفاءهم من المهام القيادية بقرارات المؤتمر وأن يعملوا على تسهيل الأمور أمام القيادة الجديدة ليثبتوا حسن نواياهم وليتم منحهم فرصة أخرى لترشيح أنفسهم للقيادة في المؤتمر القادم.
وبعد إنتهاء المؤتمر عاد المؤتمرون جميعا وفي مقدمتهم أعضاء القيادة المرحلية والسكرتير العام للبارتي إلى كردستان سوريا، ليترجموا قرارات المؤتمر على أرض الواقع وليقوموا بمهمة دمج مجموعات (اليسار واليمين والوحدويين) في إطار تنظيمات البارتي، ولينقلوا بشرى سارة لشعبنا الذي أبدى ارتياحا لا مثيل له لدى سماع نبأ وحدة البارتي، ومعظم الذين عايشوا تلك المرحلة يتذكرون كيف أنّ أهلنا قاموا بتوزيع حلوى التوحيد فور إنتشار ذلك الخبر الذي أسعدَ كل الذين تعز عليهم كرامتهم القومية.
ولكنّ الفرحة لم تكتمل لأنّ رياح البارتي لم تجرِ بما اشتهته سفن اليسار واليمين اللذان دخلا في خضم صراعات صاخبة ضد الحزب الأم، حيث أراد الطرفان نسف الإنجاز الذي تحقق ورفضا الانصياع لإرادة الوحدة ولنداء الرأي العام الكردي ولتوجيهات القيادة المرحلية التي بقيت ملتزمة بقرارات المؤتمر وبنهج والبارتي وتعليمات البارزاني الخالد، في حين استمر كل طرف منهم (اليسار واليمين) بالغناء على ليلاه اليمينية من جهة واليسارية من جهة أخرى!!؟. وكل منها وبادر إلى شق صفوف البارتي مرّة أخرى، وتم تشكيل (الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا) و (الحزب الديمقراطي اليساري الكردي في سوريا) وتابعا مسيرة تحدي البارتي على مدى العقود الزمنية الماضية.

أما القيادة المرحلية للبارتي التي كانت تستمد شرعيتها من المؤتمر التوحيدي الذي انتخبها ومن التزامها بنهج البارزاني ومن سلوكها الوحدوي ومن اتساع رقعة الجماهير المحيطة بها ومن الشارع الكردستاني المؤيد لخطها النضالي، فقد نجحت في تجاوز المحنة وصار البارتي حزبا سياسيا قويا ليس في ساحتنا الكردية فقط وإنما في الساحة السورية برمتها، وصار النظام السوري يحسب للبارتي أكثر من حساب ويضع في دربه مختلف المعوقات لإعاقة مساره النضالي ولتقليص مدَّه الجماهيري الذي كان يخيف الدوائر الشوفينية إلى أبعد الحدود!؟،
وبما أن القيادة المرحلية حينذاك إستطاعت أن تشق طريقها عبر إلتزامها بنهج البارتي الذي أدى إلى إحداث هبة جماهيرية كبيرة احتضنت الحزب، ولم تكترث بما فعله اليسار واليمين اللذان لجئا إلى طرح شعار الماركسية والتقدمية كستار في حربهما على قيادة البارتي التي استطاعت أن تصل إلى عقد مؤتمرها الأول عام 1972 ليصبح البارتي مرة أخرى الحزب الرئيسي الأول في ساحة كردستان سوريا .
وعلى أثر انعقاد المؤتمر الاول للبارتي عام 1972 بنجاح وانبثاق قيادة جديدة، بدأ حزب البعث برئاسة حافظ الأسد يحسب حسابه مرةُ أخرى بعد أن رأى بأن البارتي قد بدأ يشق طريقه مرة ثانيةً...، فما كان أمامه سوى توجيه ضربة أمنية إلى قيادة البارتي التي تم إلقاء القبض عليها بالجملة بُعَيدَ المؤتمر بأشهر قليلة أي في عام 1973 وقامت بإعتقال أكثرية الرفاق القيياديين وفي مقدمتهم السكرتير الأسبق المرحموم دهام ميرو والسكرتير السابق محمد نذير مصطفى والمرحوم كنعان عكيد والأستاذ شيخ أمين شيخ كلين وغيرهم من المناضلين، وقد حبستهم جميعاً قرابة ثمانية سنوات متواصلة...، فدخل البارتي في حالة ضعف تنظيمي للمرة الثانية ومن ثم تعرّض لإنشقاقات عديدة متتالية، لكن ذلك أيضاً لم يكسر من عزيمة البارتي وإصراره على متابعة نضاله وأستمرار نشاطه كحزب رئيسي في الساحة، ولكنه مرّ بشكل مؤقت بمرحلة ضعف على أثر إبرام إتفاقية أذار الخيانية في 6-3- 1975 التي تم على أثرها القضاء على الثورة الكردية بقيادة البارزاني الخالد، وبعده بدأ البعض بطعن البارتي من الخلف وبدأت الإنشقاقات تتالى عليه.

لكنّ البارتي لم يكترث بكل الإنشقاقات ولم يستسلم على مدى 63 عاما من النضال الدؤوب وظل يطور حراكه القومي الديمقراطي الليبرالي ويسعى لترتيب البيت الكردي عبر التلاقي والتوحيد، واستطاع أن يقوم بتشكيل أُطرٍ عديدة في مختلف المراحل التي مرّ بها، ولعلّ أبرزها "التحالف الديمقراطي الكردي" و "الجبهة الوطنية الكردية" و "المجلس السياسي الكردي" الذي تأسس في نهاية عام 2010 وكان يضم 9 احزاب كردية، وقد كان تشكيل المجلس السياسي نقلة نوعية في مسيرة الجانب السياسي الكردي التي كانت وستبقى حافلة بالتجارب والمبادرات الوحدوية .

ومع إندلاع الثورة السورية المتحولة حاليا إلى أزمة عالقة، بادر البارتي وساهم في تشكيل "المجلس الوطني الكوردي في سوريا" من خلال عقد مؤتمر وطني كوردي في القامشلي بتاريخ 26/10/2018م، وفيما بعد قام بالبارتي بالمساهمة بتأسيس "الاتحاد السياسي الكردي" وقام بعقد مؤتمر توحيدي في هولير عاصمة اقليم كردستان وبرعاية كريمة في فخامة الرئيس مسعود بارزاين، وانبثق عنه حزبنا (الحزب الديمقراطي الكوردستاني- سوريا) في أوائل نيسان عام ٢٠١٤، وذلك بعد أن تم حل الأحزاب الأربعة التي أسست الإتحاد السياسي وهي (البارتي) و(آزادي) و(آزادي) و(يكيتي الكردستاني ) وذلك بعد انعقاد اجتماعات متتالية ومسؤولة على مدار حوالي سنة أثمر عنها اكبر حزب جماهيري في ساحة كردستان سوريا وقد بلغت أعداد منتسبيه ومناصريه عشرات الآلاف ولا تخلو أية منطقة كوردية أو بلد مهجر من تواجد نشط ومكثف لتنظيمات (pdks)، ونستطيع أن نقول بأن هذا الحزب الجماهيري خاض ويخوض نضالا قوميا مريرا عبر العقود وتعدد الأجيال، وهو الآن يشارك بقوة في المجلس الوطني الكردي رغم الضغوط المكثفة التي تداهم مسيرته، ويوما بعد آخر يزداد عزم أجيال البارتي على مواصلة النضال في خندق الكوردايتي وعلى نهج البارزاني الخالد.
المجد للبارزاني الخالد ولمناضلي البارتي من المؤسسين والرعيل الأول، وتحية إحترام وتقدير لكافة الإعضاء والقياديين الذين ساهموا بكل ما أوتوا من قوة في مسيرة الكردايتي المشرّفة، منذ يوم تأسيس البارتي في 14- حزيران 1957م وحتى اليوم 14- حزيران 2020م.