عائدون إلى عفرين

عائدون إلى عفرين

عائدون إلى عفرين
علي مسلم
لفت نظري قصة تلك المرأة العفرينية وابنتيها حين بادرن بجرأة منذ أيام الى بيع حليهن إلى جانب ما يملكن من أغراض ومتاع ثمناً للسماح لهن للخروج من مخيّمات القسر والإجبار المشيدة على أطراف بلدة فافين شمال حلب، وحين وصلن الى مشارف عفرين طلبن من سائق السيارة أن يتوقف، ثم ترجلن منها، ورحن يقبلن سوياً التراب على أطراف الطريق في صورة تراجيدية أذهلت المارين ومعشر الموجودين هناك.

لقد استطعن بعفويتهن أن يخترقن جدار الوهم والرهبة الذي بناها الأوغاد على سراب بؤسهم، حين قادوهم كالخراف الى مسالخ الغربة، ليشبعوا تطرفهم، وسط حزمة من الوعود الكاذبة، على أنهم عائدون على بساط الريح بعد أيام.

كم تمنيت أن تتحول هذه القصة الخصبة الى موضوع للتداول بين نشطاء الفيسبوك الكرد العفرينيين وغير العفرينيين، الذين ما انفكوا يتداولون القصص المواربة بإسهاب، ليتهم فعلوا ذلك، لكنهم تغافلوا أو تناسوا كما العادة، أو ربما أخذتهم البلادة، أو فقدوا الحماس، لأنهم والحق يقال: ينشطون حين يكون النشاط مؤدلجاً، دون أن يدروا أن ذلك سوف يزيد من حدة اغترابهم عن الحقيقة والواقع معاً، فحين خرج المدنيون من عفرين في طوابير الألوف امتثالاً لإرادة الطغاة الجدد، كانوا غافلين، وما زالوا يبحثون عن الذرائع للتقليل من وطأة الغربة، وتنقية الأجواء لزيادة مساحة الاغتراب.

قالها البعض ذات يوم، إن الكرد كانوا أقلَّ الناس حماساً لمسألة التشبُّث بالأرض، ربما لأنهم يعشقون الحياة أكثر، أو لأنهم يكرهون العيش مع واقع الذل والهوان، لكن فكرة التخلّي عن الديار بقيت يقظة على الدوام في لا شعورهم في زمن الحرب، وكذلك في زمن اللاحرب.

كم تمنيت أن تأخذ هذه القصة الخصبة قسطاً ولو يسيراً من هواجس الإعلام الكردي، الذي بات يعيش بعيداً كل البعد عن حيوية القضايا، هذا الإعلام الذي انصرف نحو تجميل صور الطغاة دون مقابل، هؤلاء الذين تشبثوا كالقراد على هامات الوطن، يمضغون نسغه، وينتهكون أعراضه!!

فمهما كانت الحرب قاسية، ونتائجها مدمّرة، لكنها لن تستطيع أن تمسح ما تراكمت في ذاكرتنا من صور جميلة لمراتع الطفولة، ودفء الديار.

ما أحوجنا الى إعادة التعريف بأولويات القضايا فيما بيننا!! وأن نميز بين ما كنا عليه من تيه ذات يوم، وما سنكون عليه بعد حين، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن ننتظر القدر حتى نستكين لحالنا، فالأحوال قد تتبدل، والأمور تسير حكماً وفق مشيئة القائمين عليها، وسيبقى الحالمون أسرى أحلامهم أبداً.
إن أسلوب التوسل والبكاء قد ولى زمانه.