الاستفتاء.. خطوة تمهيدية استباقية
الاستفتاء.. خطوة تمهيدية استباقية
عزالدين ملا
في الحياة تتحكم الظروف بوتيرة مسار الحركة والتواصل، ومن خلال تلك الظروف يتم فرض أسلوب وحركة محددة لجعلها تدخل في خدمة المصلحة الذاتية إن برع فيها أي جهة أو طرف ما بالحنكة الدبلوماسية والحكمة السياسية في التعامل والتواصل.
على مرّ التاريخ البشري ظهرت ممالكٌ، واندثرت أخرى، ومن خلال تلك الظروف ومدى القدرة على معرفة مكامن الخلل والصواب، وجعلها لمصلحة تبدي بالفائدة والمنفعة لِمَن عرف التوازي والتقاسم معها.
أغلبية الحضارات البشرية ظهرت، وولدت من رحم مسارات تلك الظروف من خلال كيفية استغلالها ووضعها في خدمة المجتمع لفئة أو جماعة بشرية معينة. ومَنْ تداركه الأحداث، ولم يكن على قدر الفهم والتحليل لِما يجري حوله، لن يكون له وجود في التاريخ، ونهايته ستكون حتمية الهلاك.
إن الأحداث المتلاحقة والمتتالية التي تضرب خواصر الشرق الأوسط الأربعة توضح أن القادم سيقصم دولاً، وربما تولد دول جديدة.
إن ما تقوم به الدول الكبرى في خلق صراعات ضمن نقاط مختلفة من العالم لتقوية مراكزها وإضعاف مراكز الطرف الآخر الذي تقابلها، ومنطقة الشرق الأوسط من تلك النقاط والمراكز الأكثر هشاشة لتمرير إملاءاتها وتوسيع دائرة الضغط، وخاصة مع وجود صراعات بينية وايديولوجية مرافقة العقلية العنصرية والشوفينية المتسلطة على مسارات المجتمع بمختلف توجهاتها وثقافاتها، هذا كله يدفع إلى عدم قدرة تعايش مكوّناتها وشعوبها معاً ضمن كيان واحد.
إن ما يحدث الآن ضمن ساحة الشرق الأوسطية عامة من صراعات بين الدول الكبرى أمريكا وروسيا، والدول الإقليمية تركيا وإيران، مع هوامش لـ دول خليجية وعربية، يُعطي انطباعاً أن تلك الصراعات لن تهدأ فقط بتقاسم حصص النفوذ بل ستتعدى ذلك بكثير مع وجود تلك الإيديولوجيات ضمن شعوب المنطقة، حيث ستكون على أساس التهدئة، ويحدث ذلك من خلال المقايضة وأسلوب المناورة والتحايل، تحقق بيئة آمنة بين الشعوب ضمن جغرافية الشرق الأوسطية.
لذلك ما قرره الزعيم مسعود بارزاني يوم الاستفتاء كان من الصعب اتخاذه أمام الظروف الآنية بل كانت خطوة لهدف تمهيدي لِما هو قادم من تغييرات جيوسياسية في المنطقة، ولم يصل الزعيم مسعود بارزاني إلى تلك النتيجة لولا العقلية الشوفينية المتسلطة الممارسة من قبل المقابل له، وهذا القرار جاء بعد نَفَس طويل من المفاوضات والتعهدات مع سلطات المركز في بغداد، الذين لم يضعوا في بالهم السلام والعيش المشترك ضمن كيان موحد، بل أسلوبهم وعدم تقبلهم للآخر دفع حكومة وشعب إقليم كوردستان إلى اتخاذ قرار الاستفتاء.
الجميع يعلم أن الزعيم مسعود بارزاني قائد سياسي بارز ومتمكّن، ولديه حنكة سياسية، وبُعد نظر في مسائل المنطقة والاتجاهات السياسة فيها. ودرس الظروف المحيطة والمرحلة السياسية، ومستقبل العلاقة مع الحكومة بغداد الطائفية، واقتنع بهذه الخطوة المباركة، وجعلها وثيقة وطنية رسمية تخدم تطلعات الشعب الكوردي مستقبلاً، لأنه ينظر بعين المصلحة القومية الكوردية فقط، ويلتقط أيضاً الإشارات السياسية، ويسخّرها لصالح توجُّهات القضية الكوردية.
أصبح الاستفتاء وثيقة قومية ووطنية قوية وعظيمة، وكما تعتبر وثيقة سلام عظيمة على مستوى المنطقة والعالم تؤكد الأمن والاستقرار، وبعث الكورد رسالة قوية أنهم شعب يريد من خلال وثيقة الاستفتاء حل قضيته العادلة والمشروعة، وقرار الاستفتاء كان ضمن قناعات الشعب الكوردي وخرج من نطاقه السياسي بل أصبح رأي جامعاً من الكورد والعرب والتركمان والآشور والسريان، وأيضاً المسلمين والمسيحيين والإيزيديين، جميعهم تحت علم كوردستان.
الاستفتاء سلاح السلام، يمثل تطلُّعات الشعب الكوردي، كما قال الخالد الملا مصطفى البارزاني: "إذا كانت قوة الشعب معنا لا يمكن لأيّ قوة هزيمتنا". كان يوم الاستفتاء حدثاً تاريخياً عظيماً.
ومن المعلوم ان لكوردستان موقع جغرافي واستراتيجي، وتمتلك مقوّمات اقتصادية، وتزخر بموارد الطاقة وغنية بثروات المياه والنفط، وتستطيع أن تكون عامل توازن في المنطقة مليئة بالصراعات المذهبية وطائفية.
من هنا تتضح إن إقليم كوردستان متّجه نحو بناء دولة مستقلة، لأن الإقليم يتقدّم بخطى ثابتة ومتزنة نحو مزيد من الازدهار والاستقرار السياسي والاقتصادي رغم جميع محاولات بعض الدول الإقليمية والحكومة المركزية في بغداد لعرقلة عمليات التقدُّم وتطوير البنى التحتية وخلق الصراعات السياسية. كما تتمتع بالأمن والأمان والاستقرار، وأصبحت وجهة استثمارات شركات العالمية الكبرى، والمجتمع الدولي من خلال تحركات مسؤوليه ينظر إلى الإقليم كدولة مستقلة ينقصها فقط الاعتراف الأممي.
اعتقد أن وثيقة الاستفتاء ستكون لها بصمة قوية في المرحلة القادمة، كما كان في الماضي، إبان ثورة أيلول وانتزاع الاعتراف من نظام بغداد آنذاك بحكم ذاتي لـ كوردستان العراق.
الآن، من الممكن أن تكون وثيقة الاستفتاء خطوة استباقية لأي ترتيبات جديدة في الخرائط السياسية الإقليمية والدولية. الاستفتاء حدث مهم وعظيم في تاريخ الشعب الكوردي في العصر الحديث، وسيكون الحاضنة لتحقيق الحلم الكوردي في حق تقرير مصيره والعيش ضمن كيان مستقبل باسم دولة كوردستان الكبرى مستقبلاً.