أما آن أوان استلهام مواقف أمثال (مانديلا)؟
علي جزيري
التسامح - في السياسة - يعني عدم الانجرار وراء ردود الأفعال، بل العفو عند المقدرة، واعتماد ثقافة الحوار لا ثقافة القطيع، بعيداً عن ممارسة سياسة التمييز العنصري، شرط أن يُسَيّج وفق دستور ديمقراطي، يصون حقوق المكونات قاطبة (القومية والدينية والمذهبية)، على أسس من العدل والمساواة لتحقيق التعايش السلمي، وبناء المجتمع المنشود الخالي من العنف والكراهية.
فأوربا عانت بدورها من حرب طاحنة دارت رحاها بين البروتستانت والكاثوليك كالتي تدور اليوم في سوريا، مما دفعت بـ (John Locke) إلى القول: لايجوز فرض عقيدة دينية بالقوة. أما (Voltaire) فصاغ حكمة مفادها: الحَمقى وحدهم يدَّعون أن باستطاعتهم حَمْل الناس جميعاً على التفكير بالطريقة التي يريدونها. وفي النهاية ولجت عهد التسامح بناء على مقولة (الدين لله والوطن للجميع).
وخلد التاريخ أروع المواقف في ممارسة فضيلة التسامح، التي جسّدها أمثال نيلسون مانديلا في حياتهم. فتُوحي حكاية طريفة رواها مانديلا في مذكراته، إلى سعة صدره، وروحه الانسانية السمحة، وهو الذي قضى في سجون نظام الفصل العنصري "الأبارثيد"، زهرة شبابه.
وبعد خروجه من السجن، خاض انتخابات ديمقراطية تحت إشراف دولي بتاريخ 27 نيسان 1994، وفاز فيها فتبوأ قيادة (جمهورية جنوب إفريقيا). وبينما كان يتناول وجبة الطعام في أحد مطاعم العاصمة (بريتوريا) برفقة بعض أصدقائه وأفراد حمايته، وحين أقبل النادل يستفسر عن طلباتهم، لمح منديلا شخصاً على الطاولة المجاورة، ينتظر بدوره النادل، فطلب من أحد أفراد حمايته أن يدعوه ليشاركهم الطعام. استجاب الرجل للدعوة، لكن علامات الخوف كانت بادية على محياه؛ فأجلسه مانديلا إلى جانبه، وبدا الرجل للجميع متوتراً، حيث كان العرق يتصبّبُ من جبينه، ويداه ترتجفان ويتناول طعامه على عجل، ثم غادر المطعم في حال سبيله، دون أن ينطق ببنت شفة...! قال حارس مانديلا: سيادة الرئيس، يبدو أن الرجلَ مريضٌ، ألم تلاحظ علامات الاصفرار على محياه؟ وكيف كانت يداه ترتجفان طوال الوقت؟ ابتسم مانديلا، وقال بهدوء: لا أبداً، ليس كما تظن، لم يكن مريضاً، بل كان خائفاً، إنه أحد سجّانيَّ، كم كان يعذبني في سجني الانفرادي الذي قبعت فيه 27 عاماً، وحين كنتُ أصرخ من شدة العطش مطالباً بقليل من الماء، يأتي ويتبول على رأسي، لذلك كان يرتعد خوفاً من أن أعامله بمثل ما كان يعاملني. ثم أضاف مانديلا: لو قابلته اليوم بروح الانتقام ذاتها، فلن ينجو من الموت، بيد أنني سامحته، عساه أن يُدرك أن الماضي قد ولّى، فعقلية الثأر ليست من أخلاقنا، فهي لا تبني دولة، بعكس عقلية التسامح التي تبنى بها الأمم وتزدهر.
هذه الحكاية تعبّر عن عظمة منديلا وروحه السمحة المُلهمة التي تنبذ الثأر، وحريٌ بحكام الدول التي تقتسم كردستان اليوم استلهام العبرة من موقفه السالف الذكر أو من موقفه النبيل حين رفض استلام جائزة أتاتورك عام 1992 إحتجاجاً على قمع تركيا للشعب الكردي؛ ولمّا سأله أحد الصحفيين عن سبب إحجامه، أجاب: عليك أن تتخيل أنك كردي لساعة واحدة، حينئذٍ ستعرف السبب.
لكن هيهات... لكن التاريخ لايرحم، وهذا ما توحي إليه الآية: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أن تَقُولوا مَا لا تَفْعَلُونَ).