ثقافة الاعتراف المزدوج: نحو فهم موضوعي للسياسات
محمد أمين أوسي
قراءة وتحليل الأمور السياسية ضمن سياقها الصحيح ليست ترفاً فكرياً، بل هي المدخل الضروري لفهم الأزمات والبحث عن حلول واقعية لها. فالسياسة في جوهرها شبكة معقدة من المصالح والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع، وليست مجرد مواجهة بين خير مطلق وشر مطلق. حين نقرأ الظواهر السياسية قراءة سطحية، فإننا نقع في فخ التبسيط ونحرم أنفسنا من إدراك التعقيد الحقيقي، وعندها يصبح من المستحيل أن نطرح حلولاً قابلة للحياة. أما حين نعتمد قراءة سياقية عميقة، فإننا نميز بين ما هو صائب وما هو خاطئ، ونفهم منطق القرارات ونتائجها، ونفتح الباب أمام مراجعة وتصحيح يمكن أن يقود إلى الاستقرار.
لكن القراءة الصحيحة لا تكفي وحدها ما لم تترافق مع ثقافة الاعتراف المزدوج: الاعتراف بما هو صحيح وما هو خاطئ في آن واحد. هذه الثقافة يجب أن تبدأ من الجهات الحاكمة، لكنها لا تقف عندها، بل تشمل أيضاً النخب المنتمية إلى السلطة أو المعارضة أو حتى التي تدّعي الحياد. فالأزمات الكبرى مثل الأزمة السورية لم تنشأ فقط من السياسات الرسمية، بل أيضاً من طبيعة الخطاب الذي غذته النخب المختلفة، سواء بالتبرير المطلق أو بالرفض المطلق.
في الحالة السورية، يظهر بوضوح كيف أن غياب القراءة السياقية وثقافة الاعتراف المزدوج ساهم في تحويل احتجاجات مطلبية في البداية إلى حرب مفتوحة. السلطة رأت نفسها صاحبة الحق المطلق، فتمسكت بخيار أمني مكثف، وأهملت الاعتراف بالمطالب السياسية والاجتماعية المحقة. في المقابل، كثير من أطياف المعارضة تبنّت خطاباً أحادياً أيضاً: كل ما يصدر عن النظام مرفوض مهما كان، حتى لو كان خطوة إنسانية أو إصلاحية محدودة. وبين الموالاة والمعارضة، وقعت النخب الثقافية والإعلامية في الفخ نفسه: كل طرف ينكر وجود أي إيجابية عند خصمه، ويبرر كل السلبيات عند معسكره.
النتيجة أن المجتمع حُرم من نقاش ناضج يعترف بالنجاحات والإخفاقات معاً. فالسلطة لو اعترفت منذ البداية بأن هناك أخطاء متراكمة في الإدارة والاقتصاد والسياسة، إلى جانب وجود تهديدات خارجية تستغل الوضع، لكانت منحت نفسها فرصة لإعادة بناء الثقة مع المجتمع. والمعارضة لو اعترفت بأن بعض الخطوات الإدارية أو الخدمية إيجابية حتى لو جاءت من السلطة، لكانت أظهرت أنها أكثر واقعية واهتماماً بالمصلحة العامة. أما النخب لو خرجت من منطق الدعاية المسبقة، لكانت لعبت دور الجسر بين المجتمع والقرار السياسي بدلاً من أن تصبح أداة في تكريس الانقسام.
ثقافة الاعتراف المزدوج ليست ضعفاً كما قد يظن البعض، بل هي مصدر قوة. حين تقول السلطة "أخطأنا هنا" وتشرح كيف ستصحح الخطأ، فهي تكسب احترام الناس حتى لو لم يتفقوا معها في كل شيء. وحين تقول المعارضة "هذه الخطوة جيدة لكننا نريد المزيد"، فإنها تبرهن أنها طرف مسؤول يبحث عن الحلول لا عن تسجيل النقاط. وحين يكتب مثقف أو صحفي قائلاً: "السياسة الفلانية نجحت في جانب وفشلت في آخر"، فإنه يرسخ وعياً عاماً أكثر توازناً ونضجاً. هذه الممارسة هي التي تمنح المجتمع القدرة على تجاوز الانقسام وتبني حلول وسطى بدلاً من الدوران في حلقة الصراع المفتوح.
الأزمة السورية أبرزت أيضاً أهمية الوعي بالسياق الدولي والإقليمي. فالتدخلات الخارجية لم تكن طارئة بل جزءاً من جغرافيا سياسية معقدة. فهم هذا السياق لا يعني تبرير التدخل أو قبوله، بل إدراك أنه عنصر مؤثر لا يمكن تجاهله عند صياغة أي حل. هنا أيضاً يظهر دور ثقافة الاعتراف المزدوج: الاعتراف بأن بعض القوى الخارجية ساهمت في مفاقمة الصراع، لكن الاعتراف أيضاً أن ضعف الداخل وغياب التوافق الوطني هو ما فتح الباب لهذه التدخلات.
إذاً نحن أمام معادلة بسيطة في صياغتها لكنها صعبة في ممارستها: قراءة سياسية سياقية تعترف بالصواب والخطأ معاً، وتلزم كل الأطراف – الحكم، المعارضة، النخب – بأن يراجعوا أنفسهم. بدون هذه المعادلة سنبقى في أسر عقلية الأبيض والأسود التي أثبتت فشلها في سوريا وفي غيرها. أما تبنيها فيعني فتح الطريق أمام حلول تدريجية قد لا تكون مثالية لكنها قابلة للتطبيق.
السياسة ليست لوحة ثنائية الألوان، بل فسيفساء متشابكة. ومن يصرّ على رؤية الأبيض فقط أو الأسود فقط يعجز عن رؤية الصورة الكاملة. الاعتراف المزدوج يمنحنا مرونة، والقراءة السياقية تمنحنا عمقاً، والاثنان معاً يشكلان مفتاح الخروج من الأزمات. وإذا كان من درس يمكن استخلاصه من التجربة السورية، فهو أن إنكار الأخطاء أو إنكار النجاحات على حد سواء لا يبني دولة ولا يصنع مجتمعاً مستقراً. المستقبل لا يُبنى على المكابرة أو على الدعاية، بل على الصراحة مع الذات أولاً، وعلى شجاعة القول: هنا أصبنا، وهنا أخطأنا، ولن نستطيع التقدم إلا بالاعتراف بالأمرين معاً.